جاء صوت زوجته عبر الهاتف قويا, صارما, قادرا ومؤكدا, تطلب موعدا قريبا جدا لإحضار زوجها المريض إلى العيادة, وحين حل الموعد دخلت الزوجة قبل زوجها المريض وظلت تتحدث عن مرضه بالنيابة عنه لأكثر من نصف ساعة, وكلما حاولت مقاطعتها أو إيقافها لإعطائي فرصة لمشاهدة المريض قاومت هي ذلك بشدة ...................
وبعد وقت طويل خرجت من الغرفة لتحضره من صالة الانتظار فهالني الفارق الجسماني بينهما فبينما تمتلك هي تكوينا جسمانيا ممتدا طولا وعرضا كان هو قصيرا منحنيا ذو وجه طفولي وقد جلس جلسة مدرسية منكسرة وهو يردد: "تعبان يا دكتور...... تعبان........ تعبان جدا....... تعبت خلاص وزهقت..... ماعنتش قادر أتحمل ..... أرجوك يا دكتور ساعدني........ أنا كشفت كتير وأخدت علاج كتير......... أنا حاسس إن مفيش فايده.......... إنت إيه رأيك يا دكتور.....
هو الإكتئاب له علاج ولابس مسكنات ومنومات......... أنا شايف إنه مالوش علاج...... يظهر إني هافضل كده طول عمري......... قل لي يا دكتور إن ماكانش لي علاج أمري لله......... أنا نفسي أبقى كويس وارجع شغلي واشوف مصالحي بس مش قادر...... صدقني يا دكتور.......... إنت طبعا عارف قد إيه الإكتئاب صعب..... هما ساعات في البيت مايبقوش مصدقينني فاكرني باتدلع......... فهمهم يا دكتور إني مش باتدلع...... أنا فعلا تعبان ومفيش أي علاج بيجيب معايا نتيجة.... حتى فكرت إن ده يكون مس من الجن ورحت لشيخ قرأ علي ولكن برضه مفيش فايده ......... تعرف يا دكتور لولا الخوف من ربنا أنا كنت انتحرت....... أنا تعبان جدا يا دكتور وشغلي كده هايفصلوني, هما صبروا علي كتير لكن مفيش فايده ...........",
وما كاد هو أن ينتهي من كلامه حتى ألقت الزوجة ملفا كبيرا مليئا بالوصفات الطبية ونتائج الأشعات والتحاليل, ألقته أمامي على المكتب بشكل غاضب وكأنني مسئول عما حدث (رغم أنني أرى هذا المريض لأول مرة), ولم تترك لي فرصة للكلام أو مطالعة الملف المتضخم الذي ألقته أمامي بل راحت تشرح لي بتفصيل ممل رحلة المرض والعلاج التي استمرت لأكثر من سنتين بلا جدوى, ثم تنهدت تنهيدة عميقة وقالت في أسى مشوب بالغضب (من زوجها ومن الأطباء وربما مني ومن كل الرجال):
أنا تعبت يا دكتور.... ساعات ييبقى كويس ومفيش فيه أي حاجه ونقول خلاص هايصبح يروح شغله وأول ما يصحى الصبح نلاقيه تعب تاني مع إنه كان فرحان بالليل إنه هايروح الشغل...... فكرت إنه معمول له عمل بالصد عن الشغل......... مع إنه كان موظف ملتزم جدا في الشغل وعمر ما حد اشتكى منه ولا كان حد يسمع له حس.......",
وبينما كانت هي تتكلم كان ينظر إليها كطفل ينظر إلى أمه, وبعد لحظات وجدته يقاطعها بلا مناسبة ليقول لي: "يا ريت ماتكتبليش حقن يا دكتور....أنا ماباحبش الحقن طول عمري......... أنا تعبان.....شوف لي حل ضروري يا دكتور".
وحين راجعت التحاليل والأشعات لم أجد فيها شيئا, ووجدت أنه قد زار كبار الأطباء النفسيين ووصفوا له أفضل أدوية الاكتئاب حتى تلك التي تعطى للحالات المقاومة للعلاج, وبعضهم عالجه بجلسات تنظيم إيقاع المخ ( الكهرباء ), ومع هذا كانت حالته لا تتحسن.